لماذا نقرأ المذكرات؟

كتابة: كورينا مادورو

ترجمة: ميادة خليل

كما لو تتحدث مع صديق مقرب عن أمور الحياة: هكذا تشعر حين تنغمس في قراءة المذكرات. كورينا مادورو كاتبة مقالات وقراءات وصاحبة بود كاست “أمينة الكتب” تتحدث لنا هنا عن شغفها بقراءة هذا النوع الأدبي.

***

من أجمل الأمور في القراءة هو اكتشافك على حين غرة كتاب جديد. كتاب لا يمكنك تركه وتنغمس تمامًا في قصته. مثلما حدث معي حين قرأت الجزء الأول “أشياء لم أود معرفتها” من ثلاثية الكاتبة البريطانية ديبورا ليفي. كوني كاتبة مقالات عن الكتب أبحث دائمًا عن كتب مميزة ومعروفة وهذه الثلاثية بألوان أغلفتها: الأزرق، الأصفر والأحمر ظهرت لي فجأة في كل مكان: في متجر كتب، في انستغرام حيث نشرت صديقة قراءة عنها على صفحتها، وفي الصحف حيث قرأت مقالات عن الثلاثية وحوارات مع كاتبتها. وهكذا عرفت ما يكفي لجعلي أضع الثلاثية في أعلى قائمة قراءاتي.

البحث عن الذات

في مساء يوم جمعة جلست على الأريكة وبين يدي الجزء الأول من الثلاثية. وما إن قرأت الجملة الأولى حتى شعرت بأني على صلة وثيقة بالكاتبة. كانت حياة ليفي على مفرق طرق، سافرت إلى ميورقة وأمعنت في مهارتها في الكتابة. وصفت كيفية العيش في جنوب أفريقيا زمن التمييز العنصري. وتحدثت عن اختفاء والدها في السجن بسبب نشاطه معارضًا للتمييز العنصري.وبعد مرور خمس سنوات من اختفاء الأب صمتت الصغيرة ليفي. كان يطلب منها جميع من حولها التحدث بصوت أعلى ليتمكنوا من سماعها. وهكذا ولدت الكاتبة في داخلها حين قررت كتابة أفكارها. انتقلت للعيش في تلك الأثناء إلى بريطانيا واختتمت كتابها محاولةً الشعور بالأمان في ذلك البلاد الجديدة. من المدهش تمكن الكاتبة من رواية قصة مكثفة في مئة وخمسين صفحة. إذ لم تصف الكاتبة تلك المرحلة العصيبة من حياتها فحسب، بل وصفت أيضًا وعلى وجه الخصوص كيفية بحثها عن ذاتها والتمعن في أفكارها من خلال ذكرياتها.

صُنف الكتاب على غلافه بأنه سيرة ذاتية، لكن في مقالات عدّة صُنف على أنه “مُذكرات”. بطبيعة الحال الخط الرفيع الفاصل بين الجنسين الأدبيين لا يمكن تمييزه بسهولة، لأن كلاهما يقوم على قص ووصف شخص ما لمسيرة حياته. ورغم ذلك فأن الفرق بينهما واضح. ففي السيرة الذاتية يعترف الكاتب عاجلًا أم آجلًا ويقول: هذا هو أنا!. أما المذكرات فتطرح تساؤلات من مثل: من أنا!. السيرة الذاتية كاملة تركز على الحقائق؛ من، ماذا، كيف، أين، متى، لماذا وكيف حدث ما حدث في حياة شخص ما. وغالبًا ما تعرض حياة المشاهير والسياسيين والرياضيين والموسيقيين عرض زمني ترتيبي غني بالمعالم والدروس المستفادة حيث يلعب النجاح المهنيّ الدور الأهم. تلقي نظرةً سريعة على حياة قد لا تشبه حياتك ولهذا السبب بالذات تكون السير الذاتية مبهرة وملهمة لك. وفي الوقت ذاته يمكنك سبر غور “الإنسان العادي” الكامن خلف تلك الشخصية العامة في السيرة الذاتية.

التعريف الحرفي للمذكرات هو: الذكريات. القصة فيها غالبًا ما تكون ذات طبيعة استقصائية وتمنح مساحة حرية أكبر للمشاعر والأفكار منها في السيرة الذاتية. يمكنك القول بعبارة أخرى أن المذكرات تتعمق في الدخائل وتسمح للقارئ النظر إليها عن قرب.

حين كتبت ديبورا ليفي الجزء الأول من مذكراتها كانت قد انفصلت عن زوجها للتو وكان يجب عليها تشكيل حياتها من جديد. لذا يطرح الكتاب أسئلة من مثل: من أنا كاتبة وامرأة! أيُّ مكان هو موطني؟ وللإجابة على هذه التساؤلات حفرت عميقًا في ذكرياتها. غالبًا ما تتناول المذكرات الحياة اليومية العادية وتمنح مساحة للحظات الصغيرة. وهكذا وصفت ليفي، على سبيل المثال، جارتها في بريطانيا التي تتحدث إلى كلبها كما لو أنه قادر على الكلام. وتتذكر تفصيل تخبرنا من خلاله عن الكيفية التي تحاول فيها إيجاد مكان لها في هذا العالم.

تلك الكلمات

تساؤلات الحياة التي أمعنت فيها المذكرات تمنح غالبًا شعورًا بالاعتراف. وأذكر هنا على سبيل المثال كتاب “رجل بلا إجازة سوق” للكاتب الهولندي أوك ده يونغ الذي قدم الكاتب فيه ذكرياته عن دروس تعلم قيادة السيارة التي تبعها حين كان في الستين من عمره. تجربته تشبه تجربتي، لأني حصلت على إجازة السوق أيضًا في سن متأخرة. تعلمت قيادة السيارة باتباع دروس مكثفة، وتمكنت في تلك الأثناء من مواجهة نفسي وتغيّرت نظرتي إلى العالم. نتيجة لقراءة ملاحظات ده يونغ أصبحت الأمور أكثر وضوحًا لي. كتب ده يونغ في مذكراته: “المُشاة وركّاب الدراجات الهوائية يمكنهم في أي وقت تقريبًا الانحراف عن تدفق حركة المرور. إنما عند قيادة السيارة عليك السير وفقًا لحركة المرور […] وهذا ما بغضته طوال حياتي، هذا ما قاومته طوال حياتي: الاضطرار إلى السير مع الجموع”. لقد وصف شعورًا لم أجد أنا نفسي كلمات تصفه.

هناك فائض من القصص والمذكرات في متاجر الكتب. ليس في قسم الأدب فحسب، بل وفي قسم كتب الرِّحْلات والطبيعة أو الروايات المصوّرة. كتاب “طريق الملح” للكاتبة البريطانية رينور وين، “الشباب” و”الاستقلال”للكاتبة الدنماركية توفه ديتلوسن، و”الانقياد للموت” لهيلاري مانتل أمثلة على ذلك. المذكرات في الأدب الهولندي قليلة، أذكر منها مقالات الكاتبة ماريا براوس أو مذكرات ريناته دورستَين.

في متاجر الكتب الطلب على كتب المذكرات في ازدياد من قبل الشباب خاصة الذين يبحثون عن وجهات نظر سهلة وشخصية. لأن قراءة مثل هذه الكتب أفضل بكثير من قراءة كتب نظرية عن التاريخ، علم النفس أو التحرير. فمبيعات كتب الكاتبة الفرنسية آني إرنو الحاصلة على جائزة نوبل للآداب عام 2022 جيدة جدًا. لأن الجائزة عززت شهرتها وشعبية رواياتها.

الحياة الأثيرة

من المفهوم أن كتب المذكرات التي تحظى بشعبية كبيرة هي تلك التي تروي قصة شخصية تجعلك تستسلم وتنغمس فيها بسهولة. تجعلك تشعر كما لو أنك تتبادل الحديث مع صديق مقرب حول مجريات الحياة. قصة حياة قد تكون مختلفة تمامًا عن حياتك، لكن يمكنك الاقتراب منها والارتباط بها.

أجابني عالم النفس والكاتب آرتور إيتون على تساؤل إن كان ثمة تفسيرات أخرى لجاذبية كتب المذكرات. وفقًا لإيتون نحن نعيش في زمن حيث القصص الإرشادية قليلة. ثم أن كثير من الناس لا يؤمنون بفكرة الحياة بعد الموت، ولهذا السبب كل شيء في زمننا يدور حول ما نعيشه على الأرض. فنحن ننظر بشغف إلى الحياة اليومية لأننا نود معرفة كيف يقضي الآخرون أوقاتهم. باختصار: قراءة المذكرات تمنحنا الثبات. وحين سألت إيتون إن كان هو نفسه يقرأ كتب المذكرات، فرد بالإيجاب ونصح بقراءة “تقرير إلى غريكو” للكاتب نيكوس كازانتزاكيس، وهو فيلسوف يوناني متجول وروائي وصحفي. “حاول في مذكراته الإمساك بروح المكان الذي سافر إليه، والنظر إلى الناس والأحوال بعين الفيلسوف الدائم البحث عن الكامن تحت السطح.”

ثمة عامل مهم آخر يخص شغفنا بقراءة المذكرات، إلا وهو التفرّد. لقد أصبحنا أكثر شجاعة في التعبير عن مشاعرنا في مواقع التواصل الاجتماعي. بمعنى أننا أصبحنا جميعًا كتابًا في الوقت الحالي. أو كما يقول إيتون: “تُبين المذكرات تعقيدات الحياة، تكشف عمّا في ذاكرتنا وتقلباتها. تُظهر آلام الصدمة وتبعاتها. تُظهر الكيفية التي تسيّرنا بها المشاعر وتغيّرنا.”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اقتراحات كتب مذكرات تقدمها كورينا مادورو:

– “فيريا” للكاتبة الإسبانية آنا إيريس سيمون

– “أم، بعد أب” للكاتب الهولندي خيربراند بَكَر

– “بائعة كتب في أقصى الأرض” للكاتبة النيوزلندية روث شو

– “خبز وحليب” للكاتبة السويدية كارولينا رامكفيست

*المصدر: مجلة FLOW عدد 9 للعام 2023

أضف تعليق

أنشئ موقعاً أو مدونة مجانية على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑